تابعنا على

جور نار

ما الذي صنع مجد فـنلندا التربوي ؟

نشرت

في

والجميع يتحدّث عن إصلاح جوهري مُرتقب لمدرستنا التونسية، هذه بعض المبادئ البسيطة في كيفية حوْكمة منظومة من أرقى المنظومات التربوية في العالم بدون ندوات ضخمة في نزل فخمة أو شعارات هرِمة لم تقدر تاريخيا على إخراجنا من غياهب العتمة.

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

مفارقتان أساسيّتان تحضران عندما نتحدّث عن جودة أداء المدرسة الفنلنديّة بكل طوابقها :

  • فنلندا مُصنّفة عالميا من البلدان التي أحرزت أفضل النتائج المدرسية في التقييمات الدوليّة وهي التي تطلب من تلاميذها تمضية أقل وقت ممكن داخل الأقسام وتطالبهم بأقل ما يمكن من الامتحانات والفروض.
  • فنلندا بلد ليس به نفط أو ذهب أو مناجم ولا يتمتّع إلا بثروة غابيّة وخشبية كبيرة أحسن الفنلنديّون استغلالها. وصعود الصناعات الفنلندية بشكل لافت اليوم في مجالات الإلكترونيك والاتصالات والتكنولوجيا الرقمية دليل على أن العقل هو الثروة الحقيقية قبل الخيرات الأحفورية. 

تربويّا، يتحصل التلميذ الفنلندي حسب تقييمات بيزا الدولية PISA على أفضل النتائج في الرياضيات والعلوم وفهم المقروء مقارنة بكل بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (التي تضم كل البلدان المتقدمة تقريبا)، والحال أنّ 10 % فقط من التلاميذ الفنلنديين كانوا ينهون تعليمهم الثانوي إلى حدود سنة  1960.

ويمكن تلخيص الوصفة الفنلندية الفارقة في العناصر التالية :

أولا : فكرة الدولة السماويّة أو الدولة الراعية التي يعترض عليها الكثير من التونسيين المبرّرين لمنطق تخلي الدولة عن دورها المركزي وتعليل الانفجار غير المسبوق للقطاع الخاص، مازال لها وقع مهمّ  في فنلندا حيث توفر الدولة البنية الأساسية التي تُتيح لجميع الأطفال الحق في تعليم جيّد وإمكانيات واسعة لتطوير مؤهلاتهم وبصفة مجانية إلى حدود سنّ 18.

ثانيا : التعليم العمومي ذو الجودة العالية لا يتأتّى فقط من سياسات تربوية وإصلاحات دورية مجدّدة بل من سياسات اجتماعية ناجعة كذلك، حيث تلعب الدولة دورا حاسما من خلال توفير ظروف منصفة لكل الأطفال وعائلاتهم “من أجل إذابة كل المُعيقات ما قبل الدراسية  وتحقيق مسار دراسي ناجح في سن السابعة” كما يقول بازي ساهلبرغ أحد خبراء التربية الفنلنديين، لأن الحيف الاجتماعي يعطل آفاق الناس على أكثر من مستوى… وأنه توجد علاقة ثابتة بين توزيع الخيرات وتعلمات التلاميذ.

فبعد الحرب العالمية الثانية اعتمدت فنلندا على منوال اقتصادي طوّر المساواة والعدالة الاجتماعية الذي تم بموجبه تأمين مجانية الصحة والتعليم ومسكن لائق في المتناول. كما وقع تطوير منظومة الرخص الأبوية السخيّة لتشجيع الرجال على مزيد الاعتناء بأبنائهم، علاوة على محاضن مدعمة جدا من أجهزة الدولة أو مجانية وتغطية اجتماعية هامة لعموم المواطنين.

ثالثا : إعطاء قيمة كبيرة للمدرّسين الذين يتمتعون بظروف عمل طيبة جدا حيث يتقاضون أجورا مُجزية ويتكونون بصفة مستمرة في كيفية إيلاء عناية خاصة لنمو تلاميذهم وتطور كفاياتهم، فأصبح التعليم من المسارات المهنية التي يُقبل عليها الطلبة في الجامعات قبل الطب والحقوق والهندسة المعمارية … يُشار إلى أن كل المدرسين الفنلنديين يُنتدبون بمستوى ماجستير ويمارسون تدرّبهم المهني في أقسام حقيقية.

رابعا : الزمن المدرسي في فنلندا قصير للغاية بالنسبة إلى باقي البلدان : 670 ساعة سنويا في الابتدائي (كوستاريكا أكثر بمرتين وفي الولايات المتحدة وفي كولومبيا يتلقى تلميذ الابتدائي أكثر من ألف ساعة في السنة)، لأنهم يؤمنون بأهمية أن يُترك وقت كاف أمام الطفل حتى يكون طفلا. وأفضل صيغة للتعويض عن تقليص الوقت المُقضّى داخل الفصل هي في جعل الكيف ينتصر على الكمّ ويتجاوزه، حيث تكون إصابة الأهداف البيداغوجية المبرمجة أهم من القصف البيداغوجي العشوائي والحشو الإملائي الممل الدال على أن ثقافة العديد من المجتمعات مازالت ثقافة نقل لا ثقافة عقل. علاوة على التقليص أكثر ما يمكن من الفروض التي يعود بها التلميذ إلى المنزل.

خامسا : المناخ المدرسي منساب جدا وجذّاب وغير قاهر، إذ لا وجود لزي مدرسي موحد والتلاميذ يتجولون في جوارب كما في معظم البلدان الإسكاندينافية من أجل إتاحة “مرونة في الحركة والجلوس” في أقسام غير تقليدية يتنوّع فيها الأثاث والتجهيزات، وتعطى أهمية خاصة للنشاطات اليدوية الى جانب المواد التقليدية مثل الرسم والطبخ و أشغال الخشب والموسيقى والخياطة وترتيب الأثاث وتنظيف الأواني وترصيفها …

سادسا : بُني البرنامج المدرسي الفنلندي على مساعدة التلاميذ على تطوير شغفهم وفضولهم الطبيعي وتعميق تعلماتهم، بدلا من إرساء مناخ متوتّر بفعل الامتحانات نظرا إلى عدم وجودها اصلا خلال الخمس سنوات الأولى للتعليم … وخلال السنوات الموالية يُقيّم التلاميذ حسب أدائهم داخل الفصل. المبدأ هو أن لكل تلميذ قابلية للتعلم  إذا أُعطي ما يكفيه وما يلزمه من الدّعم والإمكانيات.  ويعتقد المدرسون أن دورهم يتمثل في مساعدة التلاميذ على التعلم دون ضغط وتطوير فضولهم الطبيعي وليس مساعدتهم على النجاح في الامتحانات.  حسب تقييم بيزا، 7 % فقط من التلاميذ الفنلنديين يشعرون بالملل إزاء تعلّم الرياضيات (بينما تبلغ هذه النسبة الـ 52 % في اليابان بالرغم من حصولها هي الأخرى على نتائج مدرسية طيبة في التقييمات العالمية).

سابعا : يتميّز النظام التربوي الفنلندي بقدرات إفراديّة وتمييزية إيجابية ساهمت في صُنع مجده، حيث يتمّ الاعتناء بالحالات الخاصة من لدن أساتذة إضافيين (يطلقون عليهم ممرّنين أو ميسّرين مدرسيين) وتوضع المقاربات النفسية والتربوية الخاصة للتعامل مع أبناء الهجرة (حوالي 50 % من التلاميذ هم من أصول أجنبية (

ثامنا : تنويع المقاربات والمناهج لأن التلاميذ لهم أنساق تعلّم مختلفة وليسوا كتلة واحدة متجانسة، والمُحيط والبرامج وطرق التدريس وهندسة الأقسام وتجهيزاتها هي المُطالبة بالتأقلم مع ملامح التلاميذ المتنوعة وليس العكس، ودور الأساتذة والمعلمين أن يعلموا الأطفال كيف يتعلمون، لأن المعلومات متوفرة في كل مكان. لذلك نجد أنه من بين المهارات التي تصنف فيها فنلندا الأولى عالميا هي “القدرة على حلّ الإشكاليات” التي تُعتبر من الكفاءات الأولى التي تختبرها المؤسسات الاقتصادية والصناعية المشغلة.

يجدر التأكيد في نهاية هذه الورقة أن التربية في فنلندا ليست رهانا سياسيا، إذ تتبدّل الحكومات وتظل التربية نفسها والرّهانات ذاتها، تتغيّر البرامج كل 6 سنوات ولكن تبقى وظيفة المدرسة هي الإعداد للمستقبل ودفع التلاميذ لاستكشاف إن هم يدويّون أو ذهنيّون، وإن هم غيريّون أو يفضلون العمل بشكل انفرادي، وإن هم مُبادرون أو ميّالون إلى العمل كموظّفين ومأمورين…

بمعنى أن الكلام التونسي الذي يؤكّد على أن “التلميذ هو محور العملية التربوية” هو مجرّد إنشائيات غير مُنتجة كما في كل الميادين.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 36

نشرت

في

3 et 4 décembre 2020 : Brevet blanc | Collège Notre Dame

عبد الكريم قطاطة:

في حياة الواحد منا حياة لا تشبه الحياة في شيء …هي اشبه بموت حيّ او بحياة ميّتة ..تلك التي لا طعم فيها ولا لون ولا رائحة ..تلك التي يتحوّل فيها الانسان الى كتلة لحم متحرّكة تندثر فيها كل معاني الاحساس ..الاحساس بمن حوله … ولكن وهو الفظيع الاحساس بذاته .. انذاك يتحوّل الى لا شيء في مهبّ اللاشيء ..

عبد الكريم قطاطة
عبد الكريم قطاطة

هكذا كنت انا في اليوم الثاني بعد فشلي في امتحان الباكالوريا ..”جهامة على الارض”.. لست ادري اين حملتني ساقاي يومها الا وانا اجد نفسي في منزل اختي الكبرى ..استقبلتني بكل برود ..ربّما هي تحاشت حتى النظر اليّ رفقا بحالي الكئيبة …وربّما هي موجوعة على اخيها ومن اخيها الذي لم يشرّف العائلة ..تلك العائلة التي ضحّت بالنفس والنفيس حتى يُرفع راسها بين افراد العشيرة ..لم يكن معها في المنزل احد ..كل اطفالها بمدارسهم وزوجها رحمه الله كعادته لا يعرف للراحة طعما .. منذ صغره كان يشتغل ليلا نهارا وهو يتيم الابوين ووحيدهما .. تجرّع طعم اليُتم منذ نعومة اظافره وعاش الميزيريا منذ طفولته فانقطع باكرا عن التعليم وانخرط في بناء حياته بكل تفان ونجح نجاحا باهرا في تأمين عيشه وعيش عائلته ليصبح احد كبار صُنّاع الاحذية في صفاقس …وكلّ ذلك كان على حساب صحته…

رحل ذات يوم الى فرنسا دون رجعة بعد ان فشل الاطباء في انقاذه اثر عمليّة زرع لاحدى الكليتين …ذهب راجلا الى باريس وعاد محتضنا تابوته …كان طوال حياتي الدراسية سندا لي لا مثيل له ..كان الاخ الاكبر الذي لم يتركني يوما في خصاصة ..وكان تماما كسي المبروك (اصرف ولا يهمّك ..واذا استطعت يوما ارجاع المصاريف حبّذا والا السماح بيناتنا)… وكنت كلّما مررت عليه في حانوته ااستقبلني بابتسامته الرقيقة وهو يقدّمني الى زملائه وحرفائه بكل فخر: هذا نسيبي عبدالكريم …وينبري في تعداد مآثري ويذكّرهم دوما بانّي اول غصن من آل قطاطة الذي نجح في دراسته …

يومها وجدتني بمنزل من خذلته ..استأذنتني اختي في الخروج لقضاء شؤونها بالمدينة …دون تفاصيل اخرى .. وانقرضت اختي … وواجه عبدالكريم …عبدالكريم ..كنت وما زلت قاسيا في مواجهة نفسي ..لا اذكُر اني كنت رحيما معها ..وانهمرت عرائض اللوم والادانة ..ايّة حجّة يمكن ان ابرّر بها فشلي؟ ..اوكي يا سي الشباب ..حطّمك الاستاذ الذي اصلح لك فرض العربية ..ولكن ماذا عن بقية المواد ؟؟؟ عاملّي فيها بطل وزعمة زعمة قرّيت معلّم وشايخين بيك زملائك والمتفقّد ..وبعد ..؟؟ الا تستحي من نفسك وبوك يصرف عليك وانت في سن العشرين ..؟؟؟ الا تستحي من نفسك وامّك تنتظرك لتراك يوما “هلال على روس الجبال” ؟؟ الا تستحي من نفسك وكل اترابك يعتبرونك متفوّقا فوق العادة…؟؟؟ انظر الى كشختك في المرآة ..ماذا تساوي انت الان ..رسبت في الاولى عديناهالك ..مازلت صغير وعدّيت عام طايش ..رسبت في الجزء الاول من الباكالوريا وقلنا خيرها في غيرها …

ثم جاءت الفرصة الاخيرة كي تكفّر عن سيئاتك فاذا بك مفصول نهائيا عن الدراسة ..اذ ان النظام التربوي انذاك لا يسمح لأي تلميذ بالرسوب لاكثر من ثلاث مرّات طيلة المرحلة الثانوية .. اذن وبعد فتح صندوق الباك ستتخلّى نهائيا والى الابد عن مبلغ قدره “الدراسة”… ولم يبق في دليلي ملك الا صندوقي لافتحه .ولم اترك سامي الفهري يفتحه لاني كنت متأكدا انه يحتوي على شلاكة …وخلافا لكل قواعد ولد الفهري قررت ان لا اُتمّ اللعبة وان انسحب ..نعم قرّرت الانسحاب من الحياة ..وماذا انتظر من هذه الحياة التي اكّدت انّي لا استحقّها ..لم ادر وقتها ولم ادر لحد يوم الناس هذا هل كنت جبانا ام شجاعا في اتّخاذ مثل ذلك القرار ..لأن الانتحار عندي هو في نفس الان قمّة الشجاعة وقمّة الجبن ..طبعا دون تحليل الفكرة دينيّا لأن الواعز الديني انذاك لم يُولد بعد ..وصعدت المدرج …يجب ان اضع حدّا لحياة لا حياة فيها ..عُلوّ المنزل كان كفيلا بتفتيتي اربا اربا ..هيّا عبدالكريم ..انت لا تستحقّ الحياة ..

وصلت الى سطح المنزل ..والقيت نظرة على المكان الافضل الذي سيستقبل جُثّتي ..انها الفيراندا القبليّة .. واتجهت ثابت الخطوة نحوها …ووقفت وقفة مودّع واقتربت من خطّ القفز ..لست ادري لماذا لم اُسرع في الارتماء ..ربّما هو الخوف ..ربّما هو قدر لم انتظره ..ربّما هو شيء لا استطيع تفسيره .وقفت على رجل واحدة على الحائط القبلي للمنزل ..لم ارتجف لم يختلّ توازني .. ولم اعد اشعر بأي شيء ..اغمضت عينيّ واطلت اغماضهما ..ولم افتحهما حتى وانا اسمع الباب الخارجي يُفتح ..نعم هنالك قادم ..هل هي اختي عادت من قضاء حاجاتها ..؟؟ هل هو احد ابنائها عائد من مدرسته ..؟؟ هل هو جار من الجيران ..؟؟ ولم استفق الا على صوتها … انّها عيادة ومن غيرها …اشبيك يا وليدي اش تعمل غادي …؟؟؟ هل فهمتم ما معنى “اقدااااااااااااااااااااااااار “؟؟؟ المثل يقول (قلب المومن خبيرو) وعيّادة قلبها خبيرها ..حكت لي فيما بعد انّها احست بوجع بداخلها عبّرت عنه بـ “قلبي اتنقرص تنقريصة وحدة” فلبست سفساريها وخرجت تبحث عنّي وحملتها ساقاها الى منزل ابنتها الكبرى لا تدري كيف ولماذا ولكن قلب عيّادة خبيرها …

عندما سمعت صوتها وهي تسأل ماذا افعل هناك .. ابتعدت قليلا عن خط الارتماء وجثوت على ركبتي ..لم ادر وقتها بم سأردّ عليها …ولم احس الا وهي بجانبي واجمة تبحث عن تفسير لوجودي في ذلك المكان …لم اشأ اخبارها بقراري ..كنت خائفا عليها من تجذّر الفكرة في داخلها… وذلك يعني القضاء نهائيا عن امنها وامانها الدّاخليين والى الابد تجاه ردّ فعلي على اي حدث او حادث بسيط ..قد يقع يوما ما ..ويستحيل ان تمّحي من ذاكرتها فكرة محاولة الانتحار ..وهذا يعني انّها لن ترتاح يوما ولن تهنأ براحة البال .. قلت لها: “فادد وحبّيت نشم شويّة هواء” …هل صدّقت ..؟؟ لا ادري ..هل حفظت الدرس معي ولم تعد تلك “الڨرڨارة” واصبحت تكتفي بقليل الكلام ..؟؟ لا ادري ..كل ما ادريه انها وفي ذروة الالم الذي عاشته نتيجة خيبتي، همهمت بكلمات مقتضبة: يا وليدي اش نعملو موش كاتبتلك الباك ..المهم تعيشلي …يخخي اللي ما خذاوش الباك ماتوا ..؟؟ تكبر وتخدم وتولّي سيد الرجال ونفرح بيك وبصغيّراتك…

لم اشأ بل لم استطع الردّ (بلعت السكينة بدمها) ونزلت من مسرح الجريمة …الايام التي توالت لم تختلف عن سابقاتها فقط… اندثرت فكرة الانتحار نهائيا من داخلي .. بل واصبحت مرة اخرى شديد التقريع لذاتي لما عزمت عليه ..ليس حفاظا منّي على حياتي، ابدا ..بل حفاظا على عيّادة ..كنت يوميّا اجلد نفسي جلدا داعشيا لا رحمة فيه ..كيفاش يا مكبوب السعد تفكر في الرحيل ..؟؟؟ وعيّادة ماذا ستفعل بعدك ..وانت كل املها كل معنى لوجودها كل الاكسجين الذي تتنفّسه .؟؟؟..”هذا كفوها” ؟؟؟ تقتلها وعيتها حيّة . ؟؟؟ .يلعن جد بو والدين الراتسة متاعك .. وكنت اقول لها يوميا دون ان اقول: يا عيّادة لن اتركك ..لن اخذلك ..لن افعلها ..ومن اجلك فقط يا غالية الغاليات …

كانت الاجواء رتيبة جدا ..حاولت الشلّة ان تحيطني برعايتها لرفع معنوياتي وبحذر ..لانهم يدركون جميعا اني افضّل في حالات تعاستي ان اصمت وان اطلب من الاخرين الصمت … لم اعد عبدالكريم صانع الاجواء معهم ..كنت معهم جسدا دون روح ..وكان سي المبروك اكثرهم لوعة وحرقة على ولده كُريّم ..وكان اذكاهم ..لم يفاتحني في الامر بتاتا ..وحتى اسلوبه في التّعامل مع سجائري كان في منتهى الكياسة ..ينتظرني عندما اقف بائعا لڨليباتو وحميصاتو ويدسّ خفية “باكو المنته” في احد جيوبي ..وعندما احسّ بصنيعه وانظر اليه بكثير من الحياء وعزّة النفس، كان يردّ وبكل صدق وايجاز (ما تقللي شيء ..راك ولدي) …وللامانة وجدت في حانوته ملاذا اقضّي به يومي بعيدا عن الشلّة لسببين… اوّلهما انّي كنت غير قادر على الاشتراك معهم في عبثهم وجنونهم …وثانيهما اني اردت ان ابتعد عنهم حتى لا افسد عليهم اجواءهم وانغّص شيخاتهم وانا التائه المهموم …

ذات يوم وانا في حانوت سي المبروك اقبل ساعي بريدنا (سي علي غربال) ليحمل لي برقيّة ..برقيّة ؟؟؟ من اين ..؟؟ ومن انا حتى تأتيني البرقيّات..؟؟ وسألت: هذي ليلي انا سي علي ..؟؟ _ اجاب لا لا لأمّي ..يخخي ما تعرفش تقرأ ..اوكي باسمك ..واضاف كعادته: “ملاّ شكشوكة” ومضى ..فتحت البرقيّة على عجل وقرأت ..السيد فلان الفلاني (اسمي ولقبي طبعا) انت مدعو لاجراء مناظرة تابعة لمؤسسة الاذاعة والتلفزة التونسية يوم كذا على الساعة كذا بالمعهد الفني بتونس …؟؟؟ كيف حدث هذا ..؟؟ لماذا اختارتني المؤسسة لاجراء هذه المناظرة ..؟؟ هل هي ترسل هذه البرقيات للفاشلين امثالي ..؟؟ ولماذا انا بالذات .؟؟؟ لم افهم شيئا ممّا حدث ..وهرعت الى صديق عمري ابثّ له الخبر ..ضحك وقال ..لم اشأ اخبارك ..اما الان وقد وصلتك البرقية فلعلمك ان اخي عبدالحميد والذي فشل في الباك مثلي .نقّب في الجرائد وخاصة في عروض الشغل والتشغيل، ووجد اعلانا من طرف المؤسسة وارسل طلبين واحد باسمه والثاني باسمك ..ولقد وصلته برقيّة امس باسمه ولم يشأ اخبارك وهاهي برقيّتك تصل اليوم …

اقداااااااااااااااااااااااااااااااار ..

وجاءني اخوه عبدالحميد منشرحا جدا للخبر… علّقت بمثل شعبي وقلت:خويا عبدالحميد، لو كانو فالح راهو جا من البارح _..تدخّل رضا وبكل حزم وصرامة: تمشيو وتعدّيو المناظرة، خاسرين حاجة؟ ..ما عندكش فلوس نعطيك المهم فرصة ما تتفلتش …ثم اضاف: هذي ما تناقشنيش فيها ..وكان تحب نمشي معاكم نمشي ..في تلك اللحظة لم يكن القرار جاهزا بداخلي ..فآثار النكسة لم تندمل بعد …الا انّ رضا اضاف: انت طول عمرك مغروم بالاذاعات والسينما والتلفزة ..اشكون يعرف بالكشي تخطف ؟؟…ويزّي من (تيلت) متاعك …. صدقا وبعنادي ونرجسيّتي وراسي الكبير لم يؤثّر فيّ منطق رضا كثيرا ..تعوّدت ان آخذ وحدي جلّ القرارات في حياتي ..رغم يقيني ان اطروحته للامر منطقيّة جدا ..ولكن و في تلك الظروف النفسية المعتلّة كنت احسّ بانّي وحدي الذي يجب ان اصنع مصيري ..عبدالكريم ولد الزناتي اتهزم يا رجّالة نعم ..ولكن عبدالكريم لم يمت ويجب ان يقاوم ويجب ان يّقرر ولا يترك مصيره حتى لاقرب واوفى الاصدقاء ….ربّما هو ردّ اعتبار لا شعوري لذاتي ..او هو ربّما اختصره في (قد انهزم ولكن لا اموت)…

اعلمت العائلة بوصول البرقية ..ولئن استبشر الجميع بالخبر فان عيّادة عبّرت عن ذلك باحتراز …واضافت: زعمة دعوة هاكي المرا اللي قالتلك بعد ما غششتها وما خليتهاش تسمع كسوديّة (برّة يجعلك تطلع تخدم في الاذاعة) طلعت دخان للسماء ..؟؟ امي وكسائر الامّهات انذاك تتمنى لولدها رتبة لا تقلّ عن الطبيب او المهندس وفي اسوأ الحالات استاد (بالدال وليس بالذال)… لذلك بقدر فرحها بالبرقية والتي ستخرج ولدها من حالة الضّياع، بقدر خيبتها في ان ولدها سيدخل للاداعة (مرة اخرى بالدال) والتي كانت تعني في تلك الحقبة بؤرة فساد و”اولاد العايلة ما هياش متاعهم” …ووجدتني اجلس مع نفسي لاُقرّر …انا ابن شعبة آداب والمسالك لامثالي منحصرة اما في الاداب العربية او التاريخ والجغرافيا او الحقوق … وحتى ان قُدّر لي النجاح، فحسب امكانياتي الدراسية كلّية الاداب هي الافضل بالنسبة لاختصاصي العربية رغم اني صاحب الستّة على عشرين في الباك …

قلت في نفسي بعد هذا التمحيص “بوزيد مكسي بوزيد عريان .. خاسر حاجة انا نمشي نبدّل الجو اقلّ شيء ..ومولاها ربّي” …سافرت قبل يوم من اجراء المناظرة الى تونس صحبة عبدالحميد وبات كل واحد منّا عند اصدقاء له ..والتقينا في الغد صباحا امام المعهد الفني .لم تكن المرة الاولى التي ازور فيها تونس… زرتها قبلها مرّات عندما كان والدي يشتغل بنّاء هنا وهنالك ..والفضل يعود اليه اني زرت لاول مرة وانا تلميذ في الابتدائي “بوجربوع” … وهي منطقة ليست بالبعيدة عن صفاقس ولكنها في ذلك الزمن كانت خرجة . وانا الذي لم اغادر يوما لا الحوش ولا حضن امّي …كانت مغادرة الحوش لمدة نصف شهر اثناء عطلة الصيف مع والدي وهو يشتغل في المرادم لصنع الفحم وكانت عيادة ايدها على قلبها … فكيف لصغير مثلي ان يقطن في اماكن شبه خالية ..؟؟ وهل يطمئن والدي عليّ ؟؟… ثم كانت زيارتي الثانية لجرزونة من ولاية بنزرت في عمر متقدّم دون نسيان تونس العاصمة في مناسبات …

يومها وامام المعهد الفني بدأت جحافل المشاركين في المناظرة تتوافد ..عشرات ثم مئات ..ماهذا يا هذا …؟؟؟ ثم وبوسائلنا اكتشفنا ان المستويات الدراسة تترواح بين تلاميذ الباكالوريا المنكوبين امثالي لتصل حتى الثانية جامعة ..ثم وعلى مسمع منّي جلّهم يجنڨلون باللغة الفرنسية فتحسبهم احفاد موليير … ورغم ذلك كنت يومها “جومونفوتيست”… لم اعر اي اهتمام لهذه المستجدّات… ربّما هو الفشل الذي مازال يسكن اعماقي والذي خدّر فيّ الاحساس بهول الاشياء فالشاة لا يهمّها سلخها بعد ذبحها ..او هو شعاع بسيط بدأ يولد في داخلي ويمكن حوصلته في (يوجد في النهر ما لا يوجد في المحيطات) …

دخلت قاعة الامتحان وكان يومها يتمثّل في تحليل فيلم بعد مشاهدته ..ومما اعطاني شحنة معنوية مفصلية بالنسبة لي ‘مكانية التحرير بإحدى اللغتين .. شاهدت الفيلم وحللته باللغة العربية طبعا وسلّمت ورقتي وخرجت ..في بهو ساحة المعهد تحلّق المشاركون في المناظرة حول شخص قصير القامة وديع بحق وليس كوديع الجريء ..تسللت اذني من وراء المتحلّقين لاستمع الى حديثهم ففهمت اّّولا انه مهندس يشتغل في التلفزة التونسية وانه مسؤول اداري عن تلك المناظرة ..وسمعت وهو الاهمّ ان العدد المطلوب للناجحين لا يتجاوز الثلاثين …في حين تقدم 700 ونيف لاجتياز المناظرة ..التلفزة التونسية انذاك كانت في عامها الرابع ..والمدارس المختصة في تكوين التقنيين (مونتاج وتصوير ومساعد مخرج وكاتبة مخرج) غير موجودة تماما وقتها في تونس… فكان عليها كل سنتين ان تفتح الباب لمثل هذه المناظرات لتكوين تقنييها بمركز تابع لها بنهج بيكلار و على امتداد سنتين ..سنة ونصف في النظري و6 اشهر في التطبيقي …وتلك السنة كانت المناظرة لاستقبال الدفعة الثانية …

تلك كانت الاخبار المستقاة من سي عمر ذلك المهندس الشاب …لست ادري لماذا لم تزلزلني اخباره .. خاصة المتعلقة بعدد الناجحين والذي كما اسلفت لا يزيد عن الثلاثين …وعدت الى صفاقس ..وعدت الى حانوت سي المبروك …وكان عليّ ان اشتري يوميا جريدة “لابريس” التي ستُعلن فيها نتيجة المناظرة … وهاهي الاقدار مرّة اخرى تُدلي بدلوها ..صديقي عبدالحميد الذي ارسل الطلبين لم ينجح وعبدالكريم نجح …ولكن لم ينته الامر بعد .. الذين نجحوا عددهم يفوق الثلاثين بكثير فما الامر ..؟؟ في نفس عدد لابريس لذلك اليوم وُجّهت دعوة للناجحين للحضور يوم كذا لاجراء الامتحان الشفاهي …وها انا يومها امام ثلاثي مرعب ..مدير التلفزة والمدير التقني ومركب افلام رئيس ..مرعب لانهم يحاورونني باللغة الفرنسيّة وانا “العيّل” الصغير في هذه اللغة كنت افهم احيانا بالحدس واجيب بالعربية …سألني احدهم: الا تُجيد الحوار بالفرنسية؟ ..اجبته بأني خرّيج شعبة آداب كلاسيكيّة (أ) وهذا يعني اني درست كل المواد بالعربية لذلك اجد صعوبة مع اللغة الفرنسية …

لم افهم بالضبط كيف تقبّلوا فكرة اني “ما نطشش برشة” انذاك بالفرنسيّة ..ولكن صدقا كنت مرتاح البال ..اتممت الامتحان الشفاهي الذي كان محوره ثقافة عامة وسينما ..وخرجت ..ووجدته دوما في بهو الطابق العلوي ينتظرنا ..انه سي عمر ذلك المهندس الشاب الوديع .. والذي دوما لا يشبه وديع الكورة في شيء ..وديع تنظر اليه فيمتلأ قلبك بشرا ووديع آخر تنظر اليه فيمتلأ قلبك غثيانا …سي عمر اشار علينا بعدم المغادرة لان نتائج الامتحان ستظهر نهائيا اليوم بعد اتمام الشفاهي ..وانتظرنا حتى الرابعة مساء …وخرج علينا سي عمر بالقائمة ..وعادت لذهني “سه سه ” واعلان نتيجة الباك …الا ان غفوتي لم تدم طويلا ..لانه ما ان قال ساعلن عن اسماء الناجحين نهائيا في المناظرة حتى بدأ بعبدالكريم قطاطة ..ياه لا قوائم ولا سلاسل ولا ابجدية ولا هم ينقرضون …وحملت نفسي لست ادري كيف و طرت ولسان حالي يقول:هاني جايك يا عيّادة …

يااااااااااااااااااااااااه كما للخيبة زلازل فللانتصار براكين ….وقتها ربّما بدأت افهم ان الانسان دون زلازل وبراكين… شبه انسان …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

سنكتشفُ بعد رحيل العمر

نشرت

في

عندما تضيق مساحات الأمل ويتناقص مخزون التونسيين الاستراتيجي من أوكسيجين حبّ البقاء ويملّ الكلام من الكلام وتتعاظم كتلة العابرين إلى الضفة الأخرى ولا نجد من حِيلٍ نافعة سوى النكتة والبهتة والنّهل من مدّخراتنا من الصّبر والجلَد أو ما تبقّى منهما بعد كل العقود والسنوات الوعرة التي مررنا بها،

منصف الخميري Moncef Khemiri
منصف الخميري

عندما نبلغ هذا المستوى من فقدان المناعة الفردية الداخلية في طريق ليلية لا تعترضك فيها أية دلائل ضوئية على انفراج قريب في الأفق، يُصيبنا ما يُشبه متلازمة القولون العصبي (وهي حسب القواميس الطبية حالة صحية مزمنة وشائعة تصيب الأمعاء الغليظة وتسبب تقلصات وانتفاخا في البطن) بحيث تتراجع شهيّتنا للأكل والحركة والفرح والكتابة والقراءة ومتابعة الأخبار جميعها… وأمام هذا الشدّ العصبي المُزمن، نلجأ إلى أسلوب أجدادنا في الجلوس الهادئ (بقرار واعٍ) أمام مشهد يعرفون دقائق ما يعتمل فيه ويقدّرون جيدا ألاعيب جميع اللاّعبين وفهلوتهم المكشوفة. تسألهم عمّا يجري فتأتي أجوبتهم بصورة عامة مُختصرة ومُمعنة في رميهم -على طريقتهم- بمعاتبات مُؤنّبة وصاعقة ولكن لا يلتقط لظى سخريتها سوى من كان هدفه حب وطنه بإطلاق لا حبّ ما سيجنيه عندما يقول إنه يحب وطنه.

فكأنّي أسمع تنهّدهم قائلين  : سنكشف (نهار الكِشفة) بعد رحيل العُمر :

أنه كان لدينا عنوانا أسطوريّا اسمه “قرطاج” كان من الممكن تثمينه واستثماره وتوظيف أغلى الرّسوم على حق عبور أبوابه بدلا من تحويله إلى “رِتعة” ومرتع وملجإ للفارّين من فُضول الأجوار وتطفّل الأنظار، المدنية منها والأمنية.

وأننا لم نفعل شيئا من أجل شدّ الآلاف من خيرة شبابنا إلى وطنهم الذي حباهم رغم نُدرة موارده- بتكوين أهّلهم للاندماج بيُسر نادر في المنظومات العالمية…بل لعلّنا فعلنا كل شيء من أجل إحباطهم وتخييب آمالهم وجعلهم لا يثقون البتّة في قدرة بلدهم الذي يعشقون، على النهوض يوما وتوفير بيئة قادرة على استيعاب معارفهم ومهاراتهم ولو بمستويات أجور أقل مرتين أو ثلاث من تلك التي يتقاضونها هناك.

وسنتظاهر زيفا بعد رحيل العمر، بأننا فهمنا الآن أن سنة إضافية واحدة تجتازها مدرستنا دون ترميم، مُرادفها آلاف البطّالين والمُنحرفين والمُلاحقين أمنيا والمُرشحين لاجتياز بحار الموت خلسة والمُهرّبين وأصحاب اللواحق العدلية (بحكم أن المدرسة هي التي كانت تحول أن تكون لديهم سوابق) وكل المُساهمين بشكل نشيط في إنتاج مجتمع يعيش تحت مستوى الجهل والميل الطبيعي إلى الفوضى وعقلية التدمير : تدمير الذات والأسرة والطبيعة وتهديم السقف على الجميع.  

وسنعرف يوم المُكاشفة الكبرى أننا أضعنا سنوات ثمينة جدا كان بإمكاننا استثمارها في تصويب صورة “التونسي” التي اهتزّت كثيرا خلال السنوات الأخيرة حتى بِتنا نهمس بجنسيتنا همسًا في مطارات العالم وشوارعه… والحال أننا قادرون تماما على صُنع صورة أخرى لنا ندُكّ بها ترويجاتهم عنّا وتعاليهم الزائف إزاءنا، لأننا نتميّز عن باقي شعوب الأرض بكون السؤال التقليدي “ما هي الخيرات التي يزخر بها بلدٌ معيّن ؟” لا ينطبق علينا نحن التونسيين بل ينسحب علينا السؤال الأكثر إثارة وهو “ما الذي لا تزخر به تونس حتى تكون أجمل وأسعد بلاد الدنيا ؟”.  

وسنكتشف كذلك في ساعة متأخرة من ليل العُمر أن عدد التونسيين ضئيل جدا بالمقاييس الأسيوية (خاصة إذا خصمنا منه حوالي 1.816.833 تونسي يُقيمون بصفة قانونية بالخارج أي حوالي خُمس مُجمل التونسيين) وكان من الممكن تماما – لو كانت تونس مقاطعة أوروبية –  أن يكون نصيب الفرد التونسي من الناتج المحلي الإجمالي أعلى من اللوكسمبورغ أو إيرلندا أو النرويج.

وسنُدرك بعد فوات الأوان أننا بدّدنا وقتا ثمينا في بعث لجان التحقيق التي تظل تراوح مكانها إلى أن ينسى الناس مواضيع تحقيقها، وإطلاق الاستشارات التي تظل نتائجها رهن الرفوف، وإعلان مشاريع الإصلاح التي تتعطل قبل انطلاقها، وإطلاق النوايا الواعدة التي تغمرها مياه الأحداث فتضحى بسرعة نسيًا منسيّا.   

وسنفيق عندما يصبح جسم البلد غير قادر على مزيد تحمّل النكسات والانكسارات، أن بلدانا كنّا نُدعّمها بالخبرة والتجربة والمهارة في شتى المجالات ( في التعليم والمواصلات وتشييد الجسور والطرقات والخدمات السياحية والتقنيات الفلاحية…) قطعت أشواطا متقدمة أكثر منا في صنع شروط مناعتها وسيادتها، ويكفي اليوم أن نتجول في شوارع أثيوبيا أو المغرب أو رواندا أو البلدان الخليجية لنقف على هذه المفارقة.

وسنفتح أعيننا مشدوهين يوم لا ينفع الاندهاش أننا أخفقنا في ترويض كل منعرجات الطريق التي اعترضت مسيرتنا، وأخفقنا كذلك في إنشاء عقلية مجتمعية بنّاءة لا ينتشي أصحابها لمجرّد الاستماع إلى أخبار الإيقاف والإعفاء والإحالة والاستماع حتى كاد الخطاب اليومي للتونسيين يخضع إلى استقطاب ثُلاثي فريد في العالم : فإما معارك طاحنة في الملاعب أو معْمعَات يومية في الدوائر والمحاكم، أو كذلك شبكات تهريب واتّجار خطيرة يُطاح بها على الطرقات العامة. إن العقلية السائدة اليوم لم يعد يُغريها الحديث في مشاكلنا المزمنة إلا من زاوية تقليبها على جميع أوجهها من أجل الاحتفاظ فحسب بما يزرع مزيدا من الشعور بالخيبة والرّيبة والهزيمة.

وسيُفرض علينا عندما تستكمل الحلقة دورتها أن نُحدّق مليّا في مرآة التاريخ وأن نُجيب بدون مواربة عن الأسئلة الفادحة : بماذا نفعنا بلادا أعطتنا بلا حساب وبِم أفدنا الانسانية التي نأكل من فيئها  العلمي والتكنولوجي يوميا، وما هي مؤثّثات المشهد الذي سنُورّثه لأبنائنا وماذا كسبنا من الإيذاء المجاني الذي سبّبناه لبعضنا البعض وأية الجنّات الكاذبة التي ستؤوي القتلة والمحرضين على الفتك والهتك وبِأية إنجازات حققناها أو صُروح بنيْناها ستحتفظ سجلات التاريخ ؟

وسيقول عنّا أحفادنا  “نهار الكِشفة” إن :

أجدادنا العُتاة برعوا في رياضات مختلفة وأجادوا فنونها مثل رياضة التفرّد بالتقوى والوطنية وتخوين أو تكفير سواهم، ورياضة نفخ الصّدور والجيب المقعور ورياضة توليد خطابات تُسكر قائلها لكنها لا تقول شيئا له معنى، ورياضة “رمي الجُلّة” على أهداف وهمية لا أثر لها على حياة الناس ومعيشهم وتوقهم إلى مغادرة حالة الاستثناء الدائم والسّعد النائم. 

أكمل القراءة

جور نار

نخبة براقش

نشرت

في

تونس لا تحتمل "18 أكتوبر" آخر - Actualités Tunisie Focus
ما بقي من “زاورة” 18 أكتوبر

مثل فئران المصيدة، يتعالى صراخ الكثيرين من ساستنا القدامى الذين صاروا رغم أنوفهم معارضين… ومثل نفس فصيلة القارض الصغير، لا يجد فاقدو السلطة هؤلاء متعاطفا أو مشفقا أو حتى سامعا لنداءاتهم … للأسف، بكل أسف …

عبد القادر المقري Makri Abdelkader
عبد القادر المقري

نتأسف عليهم لا كأفراد فالذاكرة الشعبية لا تحفظ لهم أي جميل حتى ترده لهم … ولكن نأسف لموت مشاعر عدة في قلوبنا، ولاندثار قيم سامية من ضمائرنا وعقولنا … ومن المفارقة أن الذي قتل فينا المشاعر والقيم، هم هؤلاء أنفسهم الذين يتوسلون إلينا اليوم كي نكون في صفهم … نعم … حين كانوا قبل هذا بعيدين عن السلطة أو عن البلاد، كان أغلبنا يحترمهم ويساندهم ولو في السر، ويقرأ منشوراتهم المهرّبة ويقول ليتهم يعودون يوما فهؤلاء هم أمل البلاد وفرسانها القادمون … ودار الزمن دورته وانتقلوا من خارج الوطن إلى داخله، ومن داخله إلى سدة حكمه، وحلم ملايين ومئات آلاف بالجنة التي تجري من تحتها الأنهار …

طبعا لا نقصد بالجنة وأنهارها أن تصبح تونس في ثراء سويسرا خلال شهر أو سنة أو حتى عشر، ولكننا على الأقل تصوّرنا حكما رشيدا ومسؤولين زاهدين وأيد نظيفة … هل كثير ذلك علينا؟ هل مستحيل؟ … أنحن أقل مقاما من أقطار أمريكا اللاتينية وارثة الطغم العسكرية، أو جنوب شرقي آسيا المثقلة بتاريخ إقطاعي لا يرين، أو جزء من إفريقيا جنوبي الصحراء المنهكة بألفيّات من العبودية والقبلية والاستعمار في أبشع ألوانه؟؟ ثم لنعد إلى خطابات نخبنا ومقالاتها ومؤلفاتها وتنظيراتها طوال عقود … لم يكن يتفوق عليها صراحة إلا “كلام الله في التوراة” كما قال شاعر … وفوق هذا، معظم أشخاص نخبنا شاب قرناها بين المهجر والسجن والتجربة ونقض التجربة وقراءة سير الأولين والآخرين … خاصة سير الساسة الذين نجحوا والساسة الذين طمرتهم المزبلة … فهل هناك من درس وهناك من استخلص وهناك من قال أنا لها؟

أكثر عبارة كانت نخبنا تتداولها وعادت إليها اليوم بعد أفول شمسها هي: الشعب… كانوا يلومون النظام السابق على أنه لا يراعي مصالح الشعب، وينفذ سياسات ضد الشعب، ويأتمر بتعليمات من أعداء الشعب، وينهب أموال الشعب، ويلعب بمستقبل أبناء الشعب… ولطالما قرأنا إنشاءات ممتعة في التغزل بشعبنا على أعمدة “الرأي” و”الموقف” و”المغرب العربي” و “البديل” و”الجرأة” وحتى “فجر” حمادي تفجيرات … ولكن حينما جاءت ساعة الجد ووُضع هؤلاء حيث يمكن لهم تنفيذ هيامهم بهذا الشعب، تشعّبت أمامهم السبل بين الشعب التونسي و”شعوب” عائلاتهم وجهاتهم وأحزابهم ومموّليهم …

علماء النفس اخترعوا مصطلحا ظريفا اسمه “عقدة ستوكهولم” ومفادها أن السجين عندما يطول به المقام تنشأ بينه وبين سجّانه وشائج مودّة وانسجام … جماعتنا السجناء السابقون في زنزانات النظام زادوا على هذا الانسجام شوطا إضافيا هو تبادل الأدوار … أي أن تتقمص الضحية دور الجلاّد حين يأتي دورها في الحكم وهذا ما فعلوه … بعد استوكهولم، لك أن تسمي العقدة الجديدة عقدة قرطاج، أو عقدة القصبة، أو عقدة باردو، أو الثلاث معا … أصبحوا في زمنهم يرفضون الاحتجاج عليهم والنقد بل ويطالبون بالتطبيل لهم عبر مظاهر عدة أهمّها اعتصام زيتون أمام مقر التلفزة في 2012 … وها قد انكبّ سعد تلفزتنا وإعلامنا عموما مذّاك بعد فترة تحضّر ومهنية موجزة …

ومهما كان استهتارهم بهذا الشعب وسوء ظنهم فيه، ومهما كان جديرا بهذه المعاملة أم لا، فيبدو أن في تاريخ السياسة ثوابت من الصعب تجاهلها:

  1. الشعوب قد تكون غبية، أو تتغابى، أو تتغافل، أو تتسامح، او تنسى مؤقتا، ولكنها في لحظة ما، تستفيق وتتذكر كل شيء، وتحاسبك أعسر حساب
  2. قد يكون للدهاء دور في نجاح رجل السياسة، ولكن ذلك لا يجدي دون الحرص على سمعة فوق كل الشبهات، وهي وحدها التي تحدد بقاء السياسي إن لم يكن في منصبه ففي ذاكرات الناس وتاريخ الحضارات … عيدي أمين وموبوتو وكمباوري وبينوشيه كانوا دهاة حكم وسياسة، ولكن مهما طال بهم المطال فقد لفظتهم الذاكرة ولم يبق من صداهم سوى الدموية والفساد الفاحش… في حين يرسخ اسم “توماس سنكارا” كواحد من العظماء رغم فترة حكمه القصيرة المثالية.
  3. جميع الزعماء الذين كان لهم تأثير في حياة شعوبهم والإنسانية، كان زهدهم في مباذخ الدنيا مضرب الأمثال… فهم يشتركون في عدم امتلاك ثروات أو مكاسب شخصية عدا مرتباتهم، وفي تعلق همتهم برفاه شعبهم بدل رفاه ذويهم … ليسوا أنبياء طبعا ولكنهم إليهم أقرب في الطموح إلى الأعلى، إلى الأسمى، إلى الخلود بدل الحسابات البنكية… وكثيرون حاولوا النبش في “تركات” بورقيبة وعبد الناصر وبومدين وهوشي منه … فلم يجدوا سوى بقية من آخر راتب، وثروة حقيقية من الإنجازات والذكر الطيب.
  4. كاذب من يقول إن السياسة الشاطرة وعود كاذبة أو لا تكون، وهذا من ترويجات مبرري عشريتنا القاتمة… لا يا سيدي، فالسياسة فيها معارك ومضارب هذا صحيح، ولكن حدا أدنى من الصدق (بل حدأ أقصى) والأخلاق ضروري إذا كان السياسي يريد أن يخدم الناس فعلا وينتظر منهم عرفانا … لسنا نتحدث عن مدينة فاضلة، ولكنها “مدينة” فقط، اي جمهرة مواطنين تملك مصيرهم اليوم، ويملكون مصيرك غدا وبعد غد.
  5. نجوم المجتمع بشتى أنواعهم هم قدوات وأمثلة أعلى للشباب، فما بالك بالنجم الأشهر في كل مجتمع أي القائد السياسي، إن لم يعط المثال فمن يعطيه؟ … وهناك مقولة ذائعة مفادها أن رجل السياسة تفكيره في الانتخابات القادمة، فيما يفكر رجل الدولة في “الأجيال القادمة”،

إلخ …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار