تابعنا على

منبـ ... نار

واجب التدارك في دونكيشوتـيّة المعارك … نقابات التعليم نموذجا

نشرت

في

كاتب عام نقابة التعليم الأساسي : ستنفجر قريبا بيننا وبين وزارة التربية

واحسْرتاه ،، لمّا كان الفؤاد ممتلئا بِحُبّ “الخيْمة”، زاخرا باِحترام قياداتها، حريصا على متابعتها .. هي اليوم قيادات تذهب بـالاتحاد العام التونسي للشغل مرّة أخرى إلى “الارتجاج” في صراعِه مع السلطة كما في نفوس أهل الدّار…

توفيق عيادي *

 على إثر معركتيْن طويلتيْ الأمد بين السلطة من جهة، ممثلة في وزارة التربية، والاتحاد من جهة أخرى مُمثّلا في نقابتيْ أكبر قطاعيْن من حيث الحجم والقيمة، التعليم الأساسي والتعليم الثانوي، اللتين تُعْـتبران من أشدّ الأوْتاد قوّة وصلابة في تاريخ “الخيْمة” … انتهت معركة الثانوي باتفاقٍ مع السلطة، بكثير من التأخّر في الزمن، لكنّه تجنّب جزئيّا حدوث الكارثة، رغم أنه لم يكن بحجم انتظارات الأساتذة. وتنتهي اليوم معركة الحجب بين الوزارة ونقابة التعليم الأساسي برفع الحجب دون التوصّل إلى أيّ اِتفاق .. لكن بعد حصول الكارثة المضاعفة، في مستوى العملية التربويّة أوّلا وفي مستوى الممارسة النقابية وقيمتها لدى المنظورين، ثمّ لدى العموم – بما في ذلك السلطة – ثانيا. 

بعد قرار الهيئة الإدارية القطاعية للتعليم الأساسي رفع الحجب ودعوة المعلمين لتنزيل الأعداد، سرَتْ حالة من السخريّة والتهكم على مآلات المسار النضالي لنقابة التعليم الأساسي، هذه السخرية لا يجب أن تطال المعلمين والمعلمات، ولا يجب لـقرار رفع الحجب أن ينال من معنويات المعلم ولا أن يأخذ من قيمته شيئا، يبقى المعلم معلما، وتاجا على رؤوسنا جميعا، فهو الذي أخذ بأيدينا من سراديب ظلام الجهل إلى محافل نور العلم واقتدارات رتْق الحرف، فألف ألف تحيّة لكل معلم ومعلـمة. لكن اِحترامنا الشديد للمربين (معلمين وأساتذة) لا يمنعنا من التعبير عن موقف إزاء هذه المعارك النقابية الفاشلة.

وفي هذا الشأن أقول: إن الدخول في معارك متى اتفق وكيفما اتفق، وتكرار هذه المعارك والترفيع في وتيرتها دون أن يكون لها حاصل إيجابي يسمح للمحارب بالاستراحة، ينال كثيرا من القيمة والقدرة ويُضعِف الثقة ويشق الصفّ ويكشف العجز عن الفعل. وهذا ما حدث داخل قطاعيْ التعليم الأساسي والثانوي. وأوّل الأخطاء المشتركة بين القطاعيْن هو غياب القدرة على تخيّر الزمن المناسب لخوْض معركة بهذا الحجم ومن أجل المربين، وهو خطأ اِستراتيجي غير قابل للمعالجة الحينيّة بسهولة ودون إحداث أضرار جسيمة. ومثل هذا الخطأ الاستراتيجي يُبين عن ضعف القدرة على قراءة الواقع قراءة جيّدة. ذلك أن فهم الواقع ضروري في كل معركة، بل هو أحد أدوات الصراع التي تـُـرَشح كل من يُحسن فهمه، قراءة وتوقعا ومعالجة، للانتصار في المعركة. كان حريّا بالنقابيين، سيّما القيادات، أن تفهم مليّا أن الواقع ليس مجرّد منصة أو إطار أو أرض للمعركة تتّصِف بالحياد يمكن عزلها أو تحييدها أو تجاهلها.

أمّا الخطأ الاستراتيجي الثاني وهو أيضا مشترك بين نقابتيْ التعليم الأساسي والثانوي، فهو أن نقابات التربية ومنظمتها الجامعة، تعتبر مسألة التربية والتعليم مسألة قطاعية يُمكن تسويتها وإصلاحها وتحقيق مكاسب فيها من خلال خوض معارك تقليدية وقطاعية معزولة ومنفردة، والحال أن مشكلة التربية مشكلة وطنيّة عميقة وعويصة، يحتل فيها المربي موقعا أساسيا ويحتاج تثمين هذا الدور معنويا وماديا إلى رؤية إصلاحية شاملة تنخرط في النهوض بها كل القوى الوطنيّة. وقد فشل الاتحاد في فهم المسألة التربوية وتقديم رؤية متكاملة تساعد على تأسيس تصوّر جديد للمنظومة التربوية (باستثناء بعض الورقات أو مساهمة بعض النقابيين في لجان “إصلاح” أعتبرها غير جادّة).

أخطاء نقابات التعليم لم تقتصر على ما هو استراتيجي بل امتدّت إلى المسائل التكتيكية، وفي كلا القطاعيْن حيث عمدت هذه النقابات إلى توسيع مساحة المعركة زمنيّا وعلى مدار سنة كاملة، وضيّقت من جهة أخرى مجال استخدام وسائل الصراع فاقتصرت على حجب الأعداد مرحليّا (في كل ثلاثيّة)، الذي لم يكن ناجِعا بما يكفي باستثناء حماية المربّي من دفع “ضريبة” النضال، ورغم هذه الحماية فقد ضاقت صدور جزء هامّ من المربّين بـِ”تخزين” بيانات الأعداد لديْهم، ربّما بدواعي المسؤولية الأخلاقيّة  التي ما يزال يحتفظ بها ويحرص عليها جُلّ المربّين (معلمين وأساتذة). في المقابل شعرت السلطة بشيء من الاطمئنان على انتظام سير العملية التربويّة رغم ما يشوبها من ارتباك، وخيّرت بدل الاستجابة لمطالب المربين أن تنتظرهم في نهاية الطريق (السنة الدراسيّة).

 واِنتقل الضغط بذلك من الوزارة إلى النقابة، وأصبح النقابيون – وهذا جليّ في تدخلاتهم- يبحثون عن حلّ قبل أن ينْسَرِبَ منهم الزمن الذي لم يبق منه الكثير، وتنتهي السنة الدراسية دون حاصل يُذكر لمعركة طويلة الأمد نسبيّا. وهذا ما دفع نقابة التعليم الثانوي إلى إمضاء اتفاق هزيل ، لم يقبل به معظم المربّين. وهذا الاتفاق – على هزالته – انقسم بشأن تقييمه المربون وجنّب نقابة التعليم الثانوي خطأ تكتيكيا خطِرًا، بالذهاب إلى الأقصى والمساس بالامتحانات الوطنيّة. على عكس نقابة التعليم الأساسي التي غامرت بالاستمرار في “المعركة المفتوحة”، فتورّطت تكتيكيا في خطإ حاصله المطلبي معلوم لدى الجميع، أمّا حاصِله المعنوي والتربوي فلا أحد يقدِرُ الآن على إحصاء خسائره .

الآن وقد وضعت “الحرب” أوزارها ومازال غبار المعركة يتناثر هنا وهناك، يُرافقه الكثير من حيرة الأسئلة ومرارة المآلات، حول الممكنات والحسابات والعلاقات والخيانات … إلاّ سؤال القيادات لا يُراد له أن يُطرح وهو أهمّ الأسئلة في تقديري. كما في الحرب تماما، المعنيون يذهبون بالأسئلة إلى الأطراف من قبيل: لماذا لم تتقدّم ّ ؟ أو ما منعك من استخدام سلاح كذا وكذا ؟ أو كيف تترك الخصم يُداهمك ؟..إلخ في حين أن السؤال المحوري الذي على القيادات أن تجيب عنه وتتحمّل المسؤوليّة فيه هو : لماذا دخلْتُمْ بنا حربا في غيْر أوانها ؟  وجواب السؤال، يعود بنا إلى الخطإ الإستراتيجي الأوّل الذي هو سوء التقدير وعدم القدرة على قراءة الواقع قراءة جيّدة والاندفاع والتشنّج. فالعمل النقابي ليس معاندة ولا مكابرة وما هو أيضا بـ”حرب طواحين” دونكيشوتيّة لا نفرغ منها حتى نعود لها. فمَنِ الذي يضعُ حدّا لِـدنكيشوتية القيادة ومن يحمّلها مسؤوليّة الإضرار بهذا المشترك التاريخي (إ.ع.ت.ش)؟

هناك أيضا سؤال آخر لا يقلّ جديّة عن الأوّل، والبحث له عن جواب قد يضيء لنا طريق المعارك القادمة ضد السلطة : لِـما لم يُحقق المربّون شيئا ذا بالٍ رغم المعارك المتكرّرة ورغم إقرار الجميع تقريبا لهم بـِـوَجاهة المطالب وأحـقّـيتها ؟؟ والحال أن رئاسة الجمهورية أقرّت بالوضع الصعب للمربّين ودعتْ إلى تحسينه ماديّا ومعنويّا، كما أن وزراء التربية الحالي والسابق والذي سبق، وسابق السّابِق، اعترفوا جميعا بالوضع المزري للمربين وأقرّوا بضرورة تحسينه، ناهيك عن المنظمة الشغّيلة في شخص أمينها العامّ ومكتبها التنفيذي حيث تتالى تصريحاتهم حول تدهور المقدرة الشرائية للمربّين وتراجعهم في مستوى سلم التأجير والثناء على المهمة التي يقومون بها. وفي ساعة الحسم ترسل للمربين الكثير من القُبل محْشُوّة بكثير من الضغط … فهل يعني أن المربّين لم يعرفوا من أين تؤكل الكتف ولم يقدِروا على حسن اِستثمار هذه الاعترافات الصادرة عن السلطة أو عن المركزية النقابيّة؟

إن سلطة تقِرّ للمربّي بحقهِ في مستوى الخطاب والقول وتمنعه عنه في الواقع، هي سلطة ماكرة وناكرة، وتدعم بسلوكها هذا فكرة “المزيد من الضغط” على السلطة لكيْ تستجيب. وهذا ما يُشرّع لكل متعاطٍ مع السلطة، الاستمرار في تكوين مجموعات الضغط والاصطفاف خلفها من أجل انتزاع الحق من السلطة/الدولة. وليس اتحاد الشغل إلاّ أحد هذه المجموعات الضاغطة والناجعة، لكنّها أصيبت بنخْرٍ سوسيّ عضال، قد تحتاج بعض أعضائه للبتر من أجل أن يتعافى و “يثوب إلى رشده” بعد أن بدأ الرشد في التلاشي …             

فالاتحاد العام التونسي للشغل كقيمة رمزية واعتباريّة تضرر كثيرا وتراجعت مكانته، حتى لدى النقابيين أنفسهم خاصّة مع القيادات الحاليّة (الوضع يُغني عن ذكر الأسماء). وعن نفسي كنقابي قاعدي من الأحزمة الداعمة، أجدُني غير قادر وغير متحمّس وغير معنيّ بسماع أيّ خطاب أو أيّ تدخّل إعلامي أو حتى قراءة أيّ بيان أو بلاغ يصدر عن الاتحاد العام التونسي للشغل وقيادته الحالية (الأمانة العامة والمكتب التنفيذي).لأوّل مرّة يُغادرني الاعتزاز بالانحياز لهذه المنظمة العريقة والانخراط فيها والدفاع عنها. لأوّل مرّة تهتزّ الثقة بداخلي وبيني وبين هذا الاسم العظيم ذي التاريخ المجيد “الاتحاد العام التونسي للشغل”. لأوّل مرّة أشعر تجاه بطحاء محمد علي، بالكثير من البؤس أو ما يقرب اليأس. لأوّل مرّة أشعر بانهيار داخليّ لقوّة الخير تلك بداخلي. وأخطر الأشياء على المقامات وعلى القامات والهامات أن ترتج وتتهاوى وتسقط من الداخل ولو رمزيّا.

 لا أشك في أنّ مثل هذا الشعور بدأ يسري لدى الكثير من النقابيين وخاصّة لدى الأحزمة النقابية الداعمة دائما. وهذا يؤشّر على أن المنظمة (بقيادتها الحالية وربّما القادمة) فقدت كثيرا من بريقها وحضورها لدى عموم التونسيين. وبدأت المنظمة تتوغّل تدريجيا في الاتجاه الخطأ، وبدأ بريقها يخفت حتى لدى القواعد. وتـُـمعِـن القيادة في نفس الوِجهة، ويستمرّ تراجع قيمة المنظمة لِـيطال النقابيين من غير القيادات المهيكلة، وبدأ يتسرّب القلق والاستياء إلى بعض القيادات النشيطة والمنتظمة، وكم أخشى أن يستمرّ تراجع قيمة المنظمة لدى مُنتسبيها، ويستمرّ الصّممُ لدى القيادة، ما يعني أن النقابيين لديْها مجرّد أرقام ، انخراطات للخزينة ونيابات للمؤتمر. الأرقام مهمّة ولا يجب إغفالها، نعم، لكنها ليست وحدها ما جعل الإتحاد العام التونسي للشغل واقفا، صامدا، شامخا …

انظروا في القيمة الاعتبارية وانظروا في المعنى وفي الرمزية والأمل وهي كلها مما كان يمثله الاتحاد، إنكم إذا أغفلتم كل ذلك وعنيتمْ فقط بحسابات الأرقام وأعداد النيابات، حتى وإن مثـّـلت لكم اليوم انتصارا، فهي مجرّد أرقام  لِعقل “حسبوتيّ” ستنقـلِـب حتى على من “عـلـّـمها” الحساب. ساعتها سيسقط الكل على الكل، ويبكي الكل كالعجائز عن منظمة عريقة لم يقدروا على حفظها كأمناء على الإرث وقادة للمستقبل، بل خرّبوها من الداخل، كما يتلهّى الصبيان بما لم يقدّروا قيمته الحقيقية … وكم أخشى أن تكون المنظمة اليوم تحت طائلة “قانون بن خلدون”، النشأة والعتوّ والانحدار، فيكون الاتحاد قد بلغ أقصاه وتوّجه بجائزة نوبل “للحوار”، وهو اليوم كمنظمة في طريقه إلى الاندحار أو انحسار مربعات الحركة، وهذا ممكن .. ربّما لِـقِلّة النقابيين فيه وكثرة “النقابْجِيّه”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ تعليم ثانوي

أكمل القراءة
تعليق واحد

1 Comment

  1. علي

    29 يوليو 2023 في 17:06

    مع الاسف سي توفيق (خرّبوها من الداخل، كما يتلهّى الصبيان) …
    و لأن استيائي فات كل مستوى الكلام فلقد قررت السكوت و السلام …

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

منبـ ... نار

مفارقات تونسية… إلى متى يُؤجّل قرار إلغاء امتحان “الباك سبور”؟

نشرت

في

رئاسة الحكومة تتخّذ إجراءات ردعية بخصوص الشعارات الإرهابية والعنصرية في  "دخلات الباك سبور"

تعيش تونس هذه الأيام، وخلال كامل الفترة من 15  إلى 27 أفريل 2024، على وقع ما يُسمّى بالباك سبور، ونغتنم فرصة الاهتمام العام بهذا الموضوع ومواكبته من قبل العائلات التونسية ووسائل الإعلام المختلفة،  لنقدم ملاحظاتنا ومقترحنا حوله،  لعلنا نساهم بذلك، في فتح النقاش العام حول الإشكاليات المطروحة، يحدونا الأمل في التعجيل باتخاذ القرار الرسمي الملائم، الذي طال انتظاره وهو إلغاء “اختبار آخر السنة في التربية البدنية والاقتصار على نتائج التقييم المستمر أثناء السنة الدراسية”.

د. مصطفى الشيخ الزوّالي

ويتضمن هذا المقال تذكيرا بنماذج من الآراء والمعطيات الموضوعية المتداولة في الدراسات التربوية والتقارير الرسمية، والتي من المفروض أو  تُقنع الرأي العام  والمسؤولين بضرورة التعجيل بالقرار المقترح وبغيره من القرارات، ولكن، وفي سياق “انحلال الروابط الصلبة”، كإحدى السمات المميزة لحياتنا المعاصرة في “زمن السيولة”، كما يعرفه عالم الاجتماع الشهير زيغموند باومن، يتواصل التأجيل لهذا الأمر، كما يتواصل الـتأجيل لقرارات أخرى، لا تقل أهمية، قد تناولنا بعضها في دراسات علمية وتقارير رسمية أو  مقالات رأي حول “مفارقات تونسية” أخرى.[1]

أولا: نبدأ بالتذكير  بما حصل  سنة 2010 ،( في زمن “الصلابة” الرسمية التونسية)، فقد صدر  قرار إلغاء اختبار التربية البدنيّة لآخر السّنة وجاء ذلك بناء على تقرير من وزارة التربية والجهات الأمنيّة، حيث اتّخذ مجلس الوزراء يوم 20 أوت 2010 قرار إلغاء اختبار آخر السّنة في التربية البدنيّة: “حفاظا على سلامة التلاميذ والتوقّي من السلوك غير الحضاريّ، داخل المؤسّسات التربويّة وخارجها.  وقد برّرت الوزارة هذا القرار-كما جاء على لسان وزير التربية آنذاك- بثلاثة أسباب، هي:

  1. ارتفاع تكلفة الامتحان (3 ملايين دينار): ويحسن تخصيصُ هذه الأموال لتهيئة الملاعب واقتناء التجهيزات الرياضيّة.
  2. سبب بيداغوجيّ يتمثل في كون الأعداد المتحصّل عليها في اختبار آخر السّنة هي دون معدّلات المراقبة المستمرّة،
  3. سبب وقائيّ وأمنيّ، بعد تفاقم ظاهرة السّلوك المخلّ داخل المؤسّسات التربويّة وخارجها، بمناسبة تنظيم اختبار آخر السّنة في التربية البدنيّة.

ولئن استبشر عدد كبير من الأولياء ومديري المؤسّسات التربويّة بهذا القرار، فقد لاقى نقدا ورفضا من قبل نقابات التعليم ومدرّسي التربية البدنيّة الذين رأوا في القرار تهميشا لمادة التربية البدنيّة.

لاحقا، وفي سياق ما يمكن تسميته بالنتائج  المنحرفة” أو “غير المأمولة” لثورة 17 ديسمبر 2010/14 جانفي 2011، صدر سنة  2012، “قرار عودة اختبار التربية البدنيّة لآخر السّنة” دون معالجة الإشكاليات التي أدّت إلى إلغاء هذا الاختبار.

للتذكير أيضا، فقد تم خلال دورتي 2020 و2021، إلغاء الباك السبور واحتساب المعدل السنوي للتربية البدنية كعدد نهائي في امتحان الباكالوريا في كافة المعاهد العمومية والخاصة، وذلك بسبب الحجر الصحي وأزمة الكوفيد19.

ثانيا: حول انعكاسات امتحان “الباك  سبور” على التنظيم البيداغوجي والحياة المدرسية [2]

  1. توقف دروس التربية البدنيّة منذ منتصف شهر أفريل ، بسبب تجنيد جميع مدرّسي المادّة في لجان الامتحان .
  2. تعدد التجاوزات ومظاهر الإخلال أثناء سير الامتحان والسّعي إلى التحيّل على التراتيب، فترى عددا من المترشّحين الذين ضمنوا معدّلات سنويّة في التربية البدنيّة مرتفعة يقومون بتقديم وثائق تعفيهم من اختبار آخر السنة، وصنفا آخر اختار الإعفاء من دروس التربية البدنية طيلة السّنة الدّراسيّة ولكنّه يريد المشاركة في اختبار آخر السّنة لجني بعض النقاط التي قد تكون ثمينة عند احتساب العدد النّهائي.

ثالثا: حول العادات والطقوس التي انتشرت قبل إجراء الاختبار وبعده:

 ويتمثل ذلك في إقامة نوع من الحفلات والاستعراضات أمام المعاهد وفي الشّوارع، تعطل حركة المرور وتتحوّل في عديد المرات إلى  مآس وحوادث مرور خطرة. وفي ما يلي فقرات واردة في وسائل إعلام مختلفة وبمواقع الكترونية تناولت هذا الموضوع ، وهي تؤكد وجود شبه إجماع على خطورة الظاهرة في المجتمع التونسي:

  1.      ” احتفالات بها بكثير من الصخب وتتوجّس منه إدارات المؤسّسات والسّلط الجهويّة والمحليّة لما يرافق احتفالات التلاميذ به من تجاوزات خطرة…” 
  2. ” أسوأ هذه العادات هي (الكُورتيج) :“استعراض السيارات”حيث يخرج التلاميذ في استعراض بالسيارات يجوبون وسط المدينة  و شوارعها إضافة إلى الألعاب النارية و الشماريخ، عادتان تأتيان في المرتبة الثانية للائحة العادات السيئة حيث يعمد عديد التلاميذ إلى الاحتفال بالـ”فلام”و الألعاب النارية …”
  3. دخلة الباك سبور …وفاة تلميذ باكالوريا بعد سقوطه من نافذة السيارة خلال احتفاله مع أصدقائه…”
  4. “الآن وقد تمّ تسجيل وفاة التلميذ ( والتلميذة)… على إثر حادثي مرور خلال احتفاليات (الدخلة) الملعونة في الباك سبور…متى يتمّ التدخّل ومنع هذه الظاهرة الخطيرة.”

رابعا: انتشار الدروس الخصوصية في “الباك سبور” وتحوّلها إلى “عنوان فساد”

لاحظنا في السنوات الأخيرة، استفحال ظاهرة الدروس الخصوصية في “الباك سبور”، وذلك رغم غلاء أسعارها، فقد صرّح وزير التربية بتاريخ 16 أفريل 2019 ، أنّ”5  أيام دروسا خصوصية في (الباك سبور) بـ700 دينار” [3].  كما صرّح الوزير نفسه، بتاريخ 21 ماي 2019، أن :  “باكالوريا الرياضة في شكلها الحالي هي عنوان الفساد وهي  لا تحمل أي معنى …. من موقعي كوزير للتربية …. لا أسمح لنفسي بمباركة أشياء أعرف جيدا أنها غير مقبولة وغير معقولة . فهل يعقل مثلا أن يتحصل 99 بالمائة من التلاميذ في الباكالوريا رياضة على أعداد فوق 18 من عشرين، هناك تضخيم غير مقبول للأعداد التي تسند للتلاميذ على خلفية الدروس الخصوصية في الرياضة، ولو كانت هذه الأعداد تسند لها ميداليات ذهبية لكانت تونس بطلة العالم في الرياضة…”[4]

يبدو جليا  من خلال هذين التصريحين، أن الوزير قد كان يؤسس لحملة إعلامية، تمهيدا لاتخاذ قرار إلغاء “الباك سبور”، ولكن بعد أقل من سنة، تغيرت الحكومة وتغير وزير التربية، وتأجل اتخاذ القرار المذكور . ويبدو أن السبب الأساسي وراء التأجيل المستمر لاتخاذ  هذا القرار وعديد القرارات التي يحتاجها قطاع التربية في تونس منذ أكثر من عقد من الزمن، هو  عدم الاستقرار الحكومي وتعاقب أكثر من 10 وزراء على قطاع التربية منذ  2011.

خامسا:  “دخلة الباك سبور”

لا يفوتنا، في خاتمة هذا المقال، أن نُذكّر بنقطة إيجابية في “الباك سبور”، قد تدفع البعض إلى الدفاع عن استمرار هذا النوع من الامتحانات ونعني بذلك ما يمكن تسميته بـ”قصص النجاح في دخلة الباك سبور” والتي أكد  من خلالها التلاميذ في عديد الحالات، قدراتهم الإبداعية وتميزهم في التعبير عن حاجياتهم الأساسية وقيمهم الإنسانية أو احتجاجاتهم ومطالبتهم بحقوقهم. ومن المواضيع التي لاقت استحسان التونسيين وراجت في الاعلام: “تكريم الأساتذة والأولياء“،  “التحسيس ضد كورونا”، وآخرها الحضور البارز للقضية الفلسطينية في “باك سبور” 2024.

لضمان المحافظة على هذه النقطة الإيجابية، يمكن التفكير في تطوير  فكرة “دخلة الباك سبور”، دون إجراء اختبار التربية البدنيّة لآخر السّنة، وذلكعبر اعتماد صيغة مشاريع عروض فنية ورياضية وثقافية، تُطبّق فيها بيداغوجيا المشروع، حيثيمكن الاستفادة من دروس فشل تجارب سابقة للوزارة في هذا المجال. نعني بذلك تجربة “التعلمات الاختيارية” (2003- 2006)  أو “”مادة إنجاز مشروع” (2006-2015) [5]. واستنادا للوثيقة الرسمية للتجديدين المذكورين، يمكن أن تتكون مجموعات من التلاميذ، تنطلق في تصور مشروع “دخلة الباك” وإعداده وتنفيذه،  بداية من السنة الدراسية للسنة الرابعة ثانوي، أو انطلاقا من السنة الثالثة ثانوي . يؤطر المشاريع مجموعة من المربين من اختصاصات مختلفة كالتربية البدنية والموسيقى والمسرح وغيرها، وبالتعاون والدعم من أطراف أخرى من العائلات والمحيط الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للمؤسسة التربوية كدُور الشباب أو الثقافة أو مؤسسات أخرى ( طبعا في سياق مشروع المؤسسة التربوية وتطبيق القانون المنظم له منذ 2004، وهو الأمر المنظم للحياة المدرسية، أو ربما القانون الذي ننتظر أن يعوّضه) يمكن كذلك أن تُرصد جوائز جهوية ووطنية لأحسن العروض التي يتم تقديمها في الاحتفالات المدرسية لآخر السنة إلخ إلخ…


هوامش:

[1] مثال ذلك دفاعنا عن قرار إلغاء الاعداديات والمعاهد النموذجية ، في مقالين منشورين بجلنار  وهي  “مفارقات تونسية ( 2)(28 أفريل 2022) و”مفارقات تونسية” (3) بتاريخ 22 جوان 2022

[2]  معطيات هذا العنصر والعنصر السابق مستخلصة، أساسا، من دراسة حول “الباك سبور” منشورة بموقع “المدونة البيداغوجية” بتاريخ 26 أفريل2015.

[3]  https://www.guideparents.tn/article

[4] https://ar.espacemanager.com

[5]  تناولنا  هذا الموضوع  في  كتابنا ” المدرسون والتجديد” ويمكن الاطلاع على تقديم الكتاب من الصديق منصف الخميري بالمدونة البيداغوجية  بتاريخ 6 مارس 2022 وكذلك على الفصل الأول من الكتاب بنفس المدونة  في 4 تواريخ متتالية بداية من 29 جانفي 2023

أكمل القراءة

منبـ ... نار

تكريما لروحك يا “جاد”… أعلِنُك رئيسا رمزيا

نشرت

في

Ouvrir la photo

توفيق العيادي:

كان جاد نصيرا للمرضى والعجّز والفقراء ولم يطلب يوْما نصرتهم لكسْب أو منصب أو مغنمٍ له، وقد هبّ الناس لتوديعه لأنهم أحسّوا فعلا بعظيم خسارتهم في موته.

Ouvrir la photo
توفيق العيادي

لم أعرف جاد الهنشيري إلا عن طريق الصدفة ومن خلال برامج تلفزية دُعِيَ لها ضيفا كممثل للأطباء الشبان، ولم ألتقه مطلقا، فقط استمعت إليه أكثر من مرّة وهو يُلقي بهمّه الذي هو همّ الفقراء على مسامع التونسيات والتونسيين، ويقطفُ من روحه أمَلاً يُرسِله لهم جميعا درْءً لأحزانهم التي فاقت كل معايير القيس وأدوات الأكيال والأوزان، وثـقُـل عليْهم حِمْلُ الهموم التي ناءتْ بها الأعناق، والمرارة على محيّا جادٍ بادية لا تُخطئها العين ويتدفّق الصدّق من بين موجات صوته المَغْصوص كَغُصَصِ كل الشباب الحالم على هذه الأرض، ولا تخلو غصّة جاد من معنىً يؤطّره مبدأ أساسيّ يشُدّ الحلم وينير الطريق ويُحفّز على المسير وتجشّم الصّعاب، مبدأ فحواه أنه : ” بمقدورنا أن نكون أفضل .. يجب أن نكون أفضل”، رغم الاستهجان والاعتراف بحجم الفساد الذي نخر معظم القطاعات والفئات في هذا الوطن.

لكَمْ نحن في حاجة ماسّة إلى شابّ جادٍّ كما “جاد” يتوهّج عزما وحبا وصدقا، ولسنا في حاجة إلى “عـتْـڤـة” قديمة كما بعض من فاق السبعين وغنِم من العهديْن ويريد اليوْم أن يستزيد … مات “جاد” رحمه الله وأغدق على أهله وصحبه الكثير من الصبر والسّلوى. لكنّ القِيَم التي حملها جادّ وحلُم بها وحمّلها لمنْ بعْدِه من الصّحْب والرّفقة، لا تزال قائمة، فأمثال جاد من الشباب الأوفياء والخلّص للوطن بكل مكوّناته سيّما البسطاء منهم، موجودون بالعشرات، بل بالآلاف وفي كل ربوعه، وما على الوطن إلاّ أن يَجِدّ في طلبهم والبحث عنهم وأن يُصدّرهم مواقع الريادة والقرار ،وإن حَجَبَهُمْ عنّا تعفّـفهم،

إذا كنا نريد فعلا المضيّ في الطريق المفضي إلى المشروع الحرّ وجبَ أن نغادر خصومات كسب العواطف واِستمالة الأهواء ونعراتِ التحامق، ونمضي في تسابق نحو كسب العقول وتهذيبها وتنظيفها من كل الشوائب العالقة بها لعهود .. ولذلك أقول للمشتغلين بالسياسة والمتكالبين على استدرار الشعب لتدبير شأنه العام والاستحكام برقابه، إن السياسيّ الناجح هو الذي يُبينُ للناس ما فيه من فضائل وما هو عليه من إقتدار وليس نجاح السياسي رهين عرض نقائص الخصم والتشنيع عليه وتعظيم مساوئه وإن كان له فيها نفع.

ونذكّر السياسي أيضا أن الجدارة بالحكم لا تتوقّف عند حدّ الفوز بالتفويض من الإرادة الشعبيّة عامة كانت أو مطلقة، كما أن النوايا الطيّبة لا تكفي لمزاولة السلطة، بل يبقى صاحب السلطة في حاجة إلى تأكيد شرعيّته بحسن إدارة الحكم الذي ينعكس وجوبا على أحوال الناس، وهذا لا يتمّ لهم بواحدٍ بل بكثيرين ومن أمثال “جاد الهنشيري” تضحية وصدقا ومروءة …

رحل جاد وبقي أثره فينا، وتكريما لروحك يا “جاد” واِنحيازا لكلّ قيَمِ الجدارة والصدق والإنسانيّة والجدوى، والتي مثّلتها باقتدار، أعْـلِنُـكَ “رئيسا” رمزيّا وشرفيّا بالغياب لهذا الوطن الحزين … ليطمئن السياسيون، فـ”جاد” لن ينهض من غيبته الأبديّة، وستكون قيمه تقضّ مضاجعكم كلّما اجتمعت لشخصٍ خشية أن يُبعثر حسابات الرّبح مِمّا تمِزّون من دماء الوطن.

أكمل القراءة

منبـ ... نار

هل تتخلص تونس من مكبلات صندوق النقد الدولي و تبحث عن مصادر بديلة؟ (2)

نشرت

في

Compétitivité des exportations en Afrique : La Tunisie classée 2 ème -  Tunisie

عرفت تونس أزمات اقتصادية ومالية متفاقمة بعيد ثورة 14 جانفي، وتتالت هذه الأزمات و امتدت آثارها السلبية الى اليوم رغم القطع مع المنظومة البائدة إثر حراك 25 جويلية.

فتحي الجميعي

إلا أن الانتهازيين و أصحاب المصالح والسابحين عكس تيار النهوض بالبلاد عطلوا عملية الإصلاح وعملوا على إفشالها وذلك بكل السبل، فبقيت تونس رهينة الديون المتراكمة والمجَدْولة، وسياسات الجذب الى الخلف كالتهريب والمضاربة وتبييض الأموال. غير أن الإرادة الصادقة، والإيمان القوي بضرورة تغيير حال البلاد إلى الأفضل جعلها لا تنحني إلى الابتزازات، ولا تخضع للشروط.

فرغم توصلها في أكتوبر 2022 الى اتفاق على مستوى الخبراء مع صندوق النقد الدولي تحصل بموجبه على تمويل بقيمة 1.9 مليار دولار، لكن الاتفاق النهائي تعثر تحت طائلة الشروط القاسية كرفع الدعم، خفض الأجور و بيع مؤسسات عامة متعثرة. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد بل تم وضع تونس ضمن القائمة السلبية لأول مرة من قبل هذا الصندوق، الأمر الذي صعب على بلادنا النفاذ الى الأسواق المالية العالمية.

وتفاديا للوقوع في صدمات اجتماعية واقتصادية، نجحت تونس بفضل تطور صادراتها، وعائدات السياحة، وتحويلات التونسيين بالخارج، وتنويع شركائها التجاريين إضافة إلى اعتمادها على الاقتراض الداخلي، والاكتتابات المتتالية لدى بورصة تونس، وانخراط التونسيين في هذه العملية، وهو نوع من الوعي الوطني والدفاع عن حرمة تونس، و نتيجة لذلك تحقق توازن مالي لدى البلاد هذا من ناحية، و من ناحية أخرى أعطت درسا لصندوق النقد الدولي بإمكانية التخلي عن خدماته عند الاقتضاء وخاصة عند المساس بأمنها القومي.

ورغم أن الفضاء الطبيعي  لتونس هو الفضاء الإفريقي والعربي والأوروبي باعتبار أن ثلثي المبادلات التجارية معه، إلا أنها عبرت عن انفتاحها على كل الفرص التي تمكن من تسريع وتطوير مناخ الأعمال ونسق النمو في اشارة إلى مجموعة “البريكس”.

إن تونس  مازالت منفتحة على الحوار مع صندوق النقد الدولي لكن دون إملاءات أو شروط تهدد السلم الاجتماعي. وإن تعذر ذلك فتونس مستعدة للانضمام الى بريكس للحصول على التمويلات اللازمة.

أكمل القراءة

صن نار